السبت، مارس 15

ذكـــرى حيّة !




سيدي يا رجلا .. لطالما دارت حوله تساؤلاتي .. وتوقف عند هدير صوته خوفي .. وجالت في خاطري من أجله أمنياتي .. وتلعثمت كلماتي .. وارتفعت في هدوء الليل من أجله دعواتي .. 
أتساءل أنت يامن ترتجف الكلمات هيبة حين أقرر تقديمها إليه .. لمَ؟ 
لم لا يمكنني الحديث عنك وبك ؟ 
لم تقف الجمل حانية الرأس حين يمر بها ذكرك ؟ 
لم لا يمكنني رسمك وكم رسمت في وجودك وبعدك الكثير والكثير ، إلّا أنت ؟ 
لما كنت ولازلت عصياً على الكلمة والوصف والتعبير ؟ 
ألإنك الأول .. أم لأنك الأخير ، أم لأنك مابينهما ؟؟ 
وأنت هنا أمام عيناي كنت في داخلي بحيث لا أشعر بك ،، ومن ثم ذهبت بعيدا لتأخذني كلي معك .. وحتى حين تركت جسدي هنا فقط .. لم يتوقف هذا الجسد عن الشعور بحنانك ولطفك والعظمة التي أورثها الله لك في قلبي ... 

هذا ما كان يجول في فكرها وهي تقف أمام صورة لوالدها .. الذي رحل قبل سنين  ، قبل أن تدرك أنه عليها مواجهة العالم الشرس وحيدة دونه ، دون أن يخبرها هو كعادته في نهاية كل عام وبداية آخر أنها كبرت وأنه لا يصدق أنها كبرت وأن العمر مرّ دون أن يشعر به وأن ملامحها وصوتها وعقلها وأفكارها ورغباتها والخاطبون على باب بيته ذكروه بذلك وأكدوه له !

عادت مرة أخرى وهي تنزل الصورة من على حائط هو أيضاً بكى لفراق الذي لم يأخذ سوى دقائق .. 
أبي هل أبكي فراقك مجددا ، أم أبكي روحي التي تفقد في كل يوم جزء منها ليلحق بك؟ أم أبكي على هذا العالم الذي لم يعد منذ أن رحلت يعنيني ؟! 
أتراك تسمع نحيب السكون وترى دمعته التي ما انفك يحاول إخفائها عن كل من يتربص به ؟ هذا السكون الحزين بداخلي ، أتراك تفهمه وأنت هناك ؟ وتشعر به وتعرف لمَ تحول عن ضجيجه حين كان يلهو حولك يشاغبك يبحث عن نظرة منك حازمة تخوفه ، ويستحث غضبك الحاني ؟؟ 
يا لذة الحياة التي فقدتها ! 
وأنين الليالي التي هجرتها !! 
ويا إشراقه الصباح التي ما عدت أراها ! 

نعم كل الحياة متوقفة 
وركض السنين عندي ليس قائم 
والزمن لا تتحرك عقاربه في ساعة روحي 
والحنين يعزف 
والشوق يهتف 
والحب باقٍ كلحظة انبثاق حبك الأول لي حين حملتني للمرة الأولى وليدة بين ذراعيك ،، ليته الزمن عندها توقف ولم أكبر أنا  .. ولم ترحل أنت  ! 

أتعرف يا ملهمي الأول .. مالذي يؤلمني أكثر من رحيلك ! هو اختلاف كل شيء بعدك .. وكأن الكون كله متئآمر عليّ ! وكأنه يحاول في كل منعطف وكل ممر وكل حادثة أن يفرض عليّ تصديق رحيلك ، إنه يا والدي يرسم وحدتي منك في وجوه الأحبة وألمهم وضعفهم وانكسارهم ! 
إنه ينحته في كلمات الأعداء وكيدهم وتنكيلهم وإزدراءهم ويرسل شماتته نكاية بي مع ضحكاتهم المتهكمة والمنتشية المنتصرة بغيابك والفراغ الذي يملئني بعدك .. 
نعم يا أبي إنه جلّي ، وما ذا أصنع إن لم يعد باستطاعتي إسكاته أكثر وحشر رأسه بين أضلعي ، لقد كبر يا أبي ، كبر وهيهات أن يمنعه طرفي الضعيف أو صوتي المنهك عن فعل هذا ! 

أعادت الصورة إلى حيث كانت تجلس على حائط الردهة الأولى في بيتها ..فكرت في مكانها تلك اللحظة ( حتى صورتك يا أبي تآمرت مع الكون ضدي وضد عائلتك الصغيرة ، وضعت هنا ربما لتذكر الداخل إليها والخارج منها ، أن صاحبها ما عاد هنا .. وكأنها تقول له لقد رحل إذن، أرني ما تراك فاعل بهذه الحقيقة وكيف ستتصرف حيالها !؟) 

أعلينا حقاً يا أبي أن نتجاهلها ونمضي ، أحقا علينا أن نمضي .. حسناً وإن فعلنا .. هل سنمضي إليك أم عنك .. ما دامت" بك " جسدا أصبحت مستحيلة ، إلاّ إن  حملناك بنا هاجسا وصفة ً وطباعا ، تركت في كل واحد منا شيئاً منها ! وأنا أستشعر ذلك كلما اجتمعنا .. في نهاية الأمر ( فينا أراك أنت ) .. 
أحقاً أنت لست هنا ؟ 
حسناً وهذا العناد الذي يتلبسني 
والرقة التي تستعمر حواسي 
والإيمان الذي يغمر قلبي 
والرضا الذي يزورني كلّما أوشكت على الجزع من كل شيء .. ألست أنت من أعطيتني إياه ؟ 
إذا كيف لا تكون هنا ... وأنت ( أنا ) . 


جلست على المقعد القريب .. أسلمت ظهرها لظهره .. رفعت رأسها وأغمضت عينيها .. لتحرر دمعاً حبسته طويلا .. يالله شكراً لأنك رغم رحيله أبقيته فينا ، وكأنما تركته من أجلنا ، من أجل أن يبقى الخيط الرفيع بيننا حتى تأخذنا أنت ذات يوم يا الله إليه ، فتجمعنا به وتطمئن بهذا الأمل واليقين قلوبنا المنكوبه بغيابه وأرواحنا الملهوفه له

وفي اغفاءة الوصال تلك رأته يهمس لها أنه يحبها .. لقد كان يتوسد ذراعه ويقابلها .. أخبرها كم يزعجه وجعها وانطواءها وأنه يسامحها مع كل ذلك وأنه لم ولن يتركها ! 
استيقظت مبتسمه .. أيقنت بقربه رغم الفراق والرحيل وقررت أن لا تغصبه بسخطها من رحيله ووعدته في سرها انها لن تكون إلا كما يريدها وكما كانت ستكون لو أنه لا زال معها ، ستثبت لهذا العالم أنه حيّ في كل جزء منها وأنه حقاً لم يمت .






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق